فصل: فَصْلٌ: بَيَانُ مَا يُكْرَهُ مِنْ التَّطَوُّعِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (نسخة منقحة)



.فَصْلٌ: بَيَانُ أَفْضَلِ التَّطَوُّعِ:

وَأَمَّا بَيَانُ أَفْضَلِ التَّطَوُّعِ فَأَمَّا فِي النَّهَارِ فَأَرْبَعٌ أَرْبَعٌ فِي قَوْلِ أَصْحَابِنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: مَثْنَى مَثْنَى بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ جَمِيعًا وَاحْتَجَّ بِمَا رَوَى عُمَارَةُ بْنُ رُوَيْبَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ «كَانَ يَفْتَتِحُ صَلَاةَ الضُّحَى بِرَكْعَتَيْنِ»، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَخْتَارُ مِنْ الْأَعْمَالِ أَفْضَلَهَا؛ وَلِأَنَّ فِي التَّطَوُّعِ بِالْمَثْنَى زِيَادَةُ تَكْبِيرٍ وَتَسْلِيمٍ فَكَانَ أَفْضَلَ، وَلِهَذَا قَالَ فِي الْأَرْبَعِ قَبْلَ الظُّهْرِ إنَّهَا بِتَسْلِيمَتَيْنِ، وَلَنَا مَا رَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَنَّهُ كَانَ يُوَاظِبُ فِي صَلَاةِ الضُّحَى عَلَى أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ» وَالْأَخْذُ بِرِوَايَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَوْلَى مِنْ الْأَخْذِ بِرِوَايَةِ عُمَارَةِ بْنِ رُوَيْبَةَ؛ لِأَنَّهُ يَرْوِي الْمُوَاظَبَةَ وَعُمَارَةُ لَا يَرْوِيهَا، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْأَخْذَ بِالْمُفَسَّرِ أَوْلَى؛ وَلِأَنَّ الْأَرْبَعَ أَدْوَمُ وَأَشَقُّ عَلَى الْبَدَنِ.
وَسُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ فَقَالَ: «أَحْمَزُهَا أَيْ: أَشَقُّهَا عَلَى الْبَدَنِ».
وَأَمَّا فِي اللَّيْلِ فَأَرْبَعٌ أَرْبَعٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ مَثْنَى مَثْنَى وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ احْتَجَّا بِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «صَلَاةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى وَبَيْنَ كُلِّ رَكْعَتَيْنِ فَسَلِّمْ» أَمَرَ بِالتَّسْلِيمِ عَلَى رَأْسِ الرَّكْعَتَيْنِ وَمَا أَرَادَ بِهِ الْإِيجَابَ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ وَاجِبٍ فَتَعَيَّنَ الِاسْتِحْبَابُ مُرَادًا بِهِ؛ وَلِأَنَّ عَمَلَ الْأُمَّةِ فِي التَّرَاوِيحِ فَظَهَرَ مَثْنَى مَثْنَى مِنْ لَدُنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إلَى يَوْمِنَا هَذَا فَدَلَّ أَنَّ ذَلِكَ أَفْضَلُ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ مَا رَوَيْنَا عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا «سُئِلَتْ عَنْ قِيَامِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي لَيَالِي رَمَضَانَ فَقَالَتْ: كَانَ قِيَامُهُ فِي رَمَضَانَ وَغَيْرِهِ سَوَاءً؛ لِأَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي بَعْدَ الْعِشَاءِ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ لَا تَسْأَلْ عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ، ثُمَّ أَرْبَعًا لَا تَسْأَلْ عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ ثُمَّ كَانَ يُوتِرُ بِثَلَاثٍ»، وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ أَنَّهَا سُئِلَتْ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَتْ وَأَيُّكُمْ يُطِيقُ ذَلِكَ، ثُمَّ ذَكَرَتْ الْحَدِيثَ وَكَلِمَةُ كَانَ عِبَارَةٌ عَنْ الْعَادَةِ، وَالْمُوَاظَبَةِ وَمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُوَاظِبُ إلَّا عَلَى أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ وَأَحَبِّهَا إلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ مَا كَانَ يُسَلِّمُ عَلَى رَأْسِ الرَّكْعَتَيْنِ إذْ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لِذِكْرِ الْأَرْبَعِ فَائِدَةٌ؛ وَلِأَنَّ الْوَصْلَ بَيْنَ الشَّفْعَيْنِ بِمَنْزِلَةِ التَّتَابُعِ فِي بَابِ الصَّوْمِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ نَذَرَ أَنْ يُصَلِّيَ أَرْبَعًا بِتَسْلِيمَةٍ فَصَلَّى بِتَسْلِيمَتَيْنِ لَا يَخْرُجُ عَنْ الْعُهْدَةِ كَذَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي الزِّيَادَاتِ كَمَا فِي صِفَةِ التَّتَابُعِ فِي بَابِ الصَّوْمِ، ثُمَّ الصَّوْمُ مُتَتَابِعًا أَفْضَلُ فَكَذَا الصَّلَاةُ، وَالْمَعْنَى فِيهِ مَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ أَشَقُّ عَلَى الْبَدَنِ فَكَانَ أَفْضَلَ وَمَعْنَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَلَّمَ أَيْ: فَتَشَهَّدَ؛ لِأَنَّ التَّحِيَّاتِ تُسَمَّى تَشَهُّدًا لِمَا فِيهَا مِنْ الشَّهَادَةِ وَهِيَ قَوْلُهُ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَكَذَا تُسَمَّى تَسْلِيمًا لِمَا فِيهَا مِنْ التَّسْلِيمِ بِقَوْلِهِ: السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ وَحَمْلُهُ عَلَى هَذَا أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ أَمْرٌ بِالتَّسْلِيمِ وَمُطْلَقُ الْأَمْرِ لِلْوُجُوبِ، وَالتَّسْلِيمُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ صَلَّى أَرْبَعًا جَازَ، أَمَّا التَّشَهُّدُ فَوَاجِبٌ فَكَانَ الْحَمْلُ عَلَيْهِ أَوْلَى، فَأَمَّا التَّرَاوِيحُ فَإِنَّمَا تُؤَدَّى مَثْنَى مَثْنَى؛ لِأَنَّهَا تُؤَدَّى بِجَمَاعَةٍ فَتُؤَدَّى عَلَى وَجْهِ السُّهُولَةِ وَالْيُسْرِ لِمَا فِيهِمْ مِنْ الْمَرِيضِ وَذِي الْحَاجَةِ وَلَا كَلَامَ فِيهِ، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِيمَا إذَا كَانَ وَحْدَهُ.

.فَصْلٌ: بَيَانُ مَا يُكْرَهُ مِنْ التَّطَوُّعِ:

وَأَمَّا بَيَانُ مَا يُكْرَهُ مِنْ التَّطَوُّعِ، فَالْمَكْرُوهُ مِنْهُ نَوْعَانِ: نَوْعٌ يَرْجِعُ إلَى الْقَدْرِ، وَنَوْعٌ يَرْجِعُ إلَى الْوَقْتِ.
أَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْقَدْرِ فَأَمَّا فِي النَّهَارِ فَتُكْرَهُ الزِّيَادَةُ عَلَى الْأَرْبَعِ بِتَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ، وَفِي اللَّيْلِ لَا تُكْرَهُ وَلَهُ أَنْ يُصَلِّيَ سِتًّا وَثَمَانِيًا، ذَكَرَهُ فِي الْأَصْلِ وَذَكَرَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ فِي صَلَاةِ اللَّيْلِ إنْ شِئْت فَصَلِّ بِتَكْبِيرَةٍ رَكْعَتَيْنِ، وَإِنْ شِئْت أَرْبَعًا، وَإِنْ شِئْت سِتًّا وَلَمْ يَزِدْ عَلَيْهِ، وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ أَنَّ النَّوَافِلَ شُرِعَتْ تَبَعًا لِلْفَرَائِضِ وَالتَّبَعُ لَا يُخَالِفُ الْأَصْلَ فَلَوْ زِيدَتْ عَلَى الْأَرْبَعِ فِي النَّهَارِ لَخَالَفَتْ الْفَرَائِضَ، وَهَذَا هُوَ الْقِيَاسُ فِي اللَّيْلِ إلَّا أَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى الْأَرْبَعِ إلَى الثَّمَانِ، أَوْ إلَى السِّتِّ عَرَفْنَاهُ بِالنَّصِّ، وَهُوَ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي بِاللَّيْلِ خَمْسَ رَكَعَاتٍ سَبْعَ رَكَعَاتٍ تِسْعَ رَكَعَاتٍ إحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً، وَالثَّلَاثُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَعْدَادِ الْوِتْرُ، وَرَكْعَتَانِ مِنْ ثَلَاثَةَ عَشَرَ سُنَّةُ الْفَجْرِ فَيَبْقَى رَكْعَتَانِ وَأَرْبَعٌ وَسِتٌّ وَثَمَانٍ فَيَجُوزُ إلَى هَذَا الْقَدْرِ بِتَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ.
وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِي الزِّيَادَةِ عَلَى الثَّمَانِ بِتَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ، قَالَ بَعْضُهُمْ: يُكْرَهُ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى هَذَا لَمْ تُرْوَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ بَعْضُهُمْ؛ لَا يُكْرَهُ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الزَّاهِدُ السَّرَخْسِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ: لِأَنَّ فِيهِ وَصْلَ الْعِبَادَةِ بِالْعِبَادَةِ فَلَا يُكْرَهُ وَهَذَا يُشْكِلُ بِالزِّيَادَةِ عَلَى الْأَرْبَعِ فِي النَّهَارِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يُكْرَهُ لِمَا ذَكَرْنَا، وَعَلَيْهِ عَامَّةُ الْمَشَايِخِ.
وَلَوْ زَادَ عَلَى الْأَرْبَعِ فِي النَّهَارِ أَوْ عَلَى الثَّمَانِ فِي اللَّيْلِ يَلْزَمُهُ لِوُجُودِ سَبَبِ اللُّزُومِ وَهُوَ الشُّرُوعُ.
ثُمَّ اُخْتُلِفَ فِي أَنَّ الْأَفْضَلَ فِي التَّطَوُّعِ طُولُ الْقِيَامِ فِي الْأَرْبَعِ وَالْمَثْنَى عَلَى حَسَبِ مَا اُخْتُلِفَ فِيهِ أَمْ كَثْرَةُ الصَّلَاةِ؟ قَالَ أَصْحَابُنَا طُولُ الْقِيَامِ أَفْضَلُ، وَقَالَ: الشَّافِعِيُّ كَثْرَةُ الصَّلَاةِ أَفْضَلُ، وَلَقَبُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ طُولَ الْقُنُوتِ أَفْضَلُ أَمْ كَثْرَةُ السُّجُودِ؟ وَالصَّحِيحُ قَوْلُنَا لِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ «سُئِلَ عَنْ أَفْضَلِ الصَّلَاةِ فَقَالَ: طُولُ الْقُنُوتِ» أَيْ: الْقِيَامِ وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ}: إنَّ الْقُنُوتَ طُولُ الْقِيَامِ وَقَرَأَ قَوْله تَعَالَى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ} وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ قَالَ: إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ وِرْدٌ فَطُولُ الْقِيَامِ أَفْضَلُ.
وَأَمَّا إذَا كَانَ لَهُ وِرْدٌ مِنْ الْقُرْآنِ يَقْرَؤُهُ فَكَثْرَةُ السُّجُودِ أَفْضَلُ؛ لِأَنَّ الْقِيَامَ لَا يَخْتَلِفُ وَيُضَمُّ إلَيْهِ زِيَادَةُ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْوَقْتِ فَيُكْرَهُ التَّطَوُّعُ فِي الْأَوْقَاتِ الْمَكْرُوهَةِ وَهِيَ اثْنَا عَشَرَ بَعْضُهَا يُكْرَهُ التَّطَوُّعُ فِيهَا لِمَعْنًى فِي الْوَقْتِ، وَبَعْضُهَا يُكْرَهُ التَّطَوُّعُ فِيهَا لِمَعْنًى فِي غَيْرِ الْوَقْتِ.
أَمَّا الَّذِي يُكْرَهُ التَّطَوُّعُ فِيهَا لِمَعْنًى يَرْجِعُ إلَى الْوَقْتِ فَثَلَاثَةُ أَوْقَاتٍ: أَحَدُهَا مَا بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ إلَى أَنْ تَرْتَفِعَ وَتَبْيَضَّ، وَالثَّانِي عِنْدَ اسْتِوَاءِ الشَّمْسِ إلَى أَنْ تَزُولَ، وَالثَّالِثُ عِنْدَ تَغَيُّرِ الشَّمْسِ وَهُوَ احْمِرَارُهَا، وَاصْفِرَارُهَا إلَى أَنْ تَغْرُبَ.
فَفِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ الثَّلَاثَةِ يُكْرَهُ كُلُّ تَطَوُّعٍ فِي جَمِيعِ الْأَزْمَانِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَغَيْرِهِ، وَفِي جَمِيعِ الْأَمَاكِنِ بِمَكَّةَ وَغَيْرِهَا، وَسَوَاءٌ كَانَ تَطَوُّعًا مُبْتَدَأً لَا سَبَبَ لَهُ، أَوْ تَطَوُّعًا لَهُ سَبَبٌ كَرَكْعَتَيْ الطَّوَافِ وَرَكْعَتَيْ تَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ وَنَحْوِهِمَا.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِالتَّطَوُّعِ وَقْتَ الزَّوَالِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَقَالَ: الشَّافِعِيُّ لَا بَأْسَ بِالتَّطَوُّعِ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ بِمَكَّةَ، احْتَجَّ أَبُو يُوسُفَ بِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «نَهَى عَنْ الصَّلَاةِ وَقْتَ الزَّوَالِ إلَّا يَوْمَ الْجُمُعَةِ»، وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- بِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نَهَى عَنْ الصَّلَاةِ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ إلَّا بِمَكَّةَ، وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ الْجُهَنِيِّ أَنَّهُ قَالَ: «ثَلَاثُ سَاعَاتٍ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْهَانَا أَنْ نُصَلِّيَ فِيهَا، وَأَنْ نَقْبُرَ فِيهَا مَوْتَانَا إذَا طَلَعَتْ الشَّمْسُ حَتَّى تَرْتَفِعَ، وَإِذَا تَضَيَّقَتْ لِلْمَغِيبِ، وَعِنْدَ الزَّوَالِ» وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «نَهَى عَنْ الصَّلَاةِ وَقْتَ الطُّلُوعِ وَالْغُرُوبِ، وَقَالَ: لِأَنَّ الشَّمْسَ تَطْلُعُ وَتَغْرُبُ بَيْنَ قَرْنَيْ شَيْطَانٍ» وَرَوَى الصُّنَابِحِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «نَهَى عَنْ الصَّلَاةِ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَقَالَ: إنَّهَا تَطْلُعُ بَيْنَ قَرْنَيْ شَيْطَانٍ يُزَيِّنُهَا فِي عَيْنِ مَنْ يَعْبُدُهَا حَتَّى يَسْجُدَ لَهَا فَإِذَا ارْتَفَعَتْ فَارَقَهَا، فَإِذَا كَانَتْ عِنْدَ قَائِمِ الظَّهِيرَةِ قَارَنَهَا، فَإِذَا مَالَتْ فَارَقَهَا، فَإِذَا دَنَتْ لِلْغُرُوبِ قَارَنَهَا، فَإِذَا غَرَبَتْ فَارَقَهَا فَلَا تُصَلُّوا فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ» فَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ الصَّلَاةِ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ فَهُوَ عَلَى الْعُمُومِ وَالْإِطْلَاقِ، وَنَبَّهَ عَلَى مَعْنَى النَّهْيِ، وَهُوَ طُلُوعُ الشَّمْسِ بَيْنَ قَرْنَيْ الشَّيْطَانِ وَذَلك؛ لِأَنَّ عَبَدَةَ الشَّمْسِ يَعْبُدُونَ الشَّمْسَ، وَيَسْجُدُونَ لَهَا عِنْدَ الطُّلُوعِ تَحِيَّةً لَهَا، وَعِنْدَ الزَّوَالِ لِاسْتِتْمَامِ عُلُوِّهَا، وَعِنْدَ الْغُرُوبِ وَدَاعًا لَهَا فَيَجِيءُ الشَّيْطَانُ فَيَجْعَلُ الشَّمْسَ بَيْنَ قَرْنَيْهِ لِيَقَعَ سُجُودُهُمْ نَحْوَ الشَّمْسِ لَهُ، فَنَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الصَّلَاةِ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ لِئَلَّا يَقَعَ التَّشْبِيهُ بِعَبَدَةِ الشَّمْسِ، وَهَذَا الْمَعْنَى يَعُمُّ الْمُصَلِّينَ أَجْمَعَ فَقَدْ عَمَّ النَّهْيُ بِصِيغَتِهِ وَمَعْنَاهُ فَلَا مَعْنَى لِلتَّخْصِيصِ، وَمَا رُوِيَ مِنْ النَّهْيِ إلَّا بِمَكَّةَ شَاذٌّ لَا يُقْبَلُ فِي مُعَارَضَةِ الْمَشْهُورِ، وَكَذَا رِوَايَةُ اسْتِثْنَاءِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ غَرِيبَةٌ فَلَا يَجُوزُ تَخْصِيصُ الْمَشْهُورِ بِهَا.
وَأَمَّا الْأَوْقَاتُ الَّتِي يُكْرَهُ فِيهَا التَّطَوُّعُ لِمَعْنًى فِي غَيْرِ الْوَقْتِ فَمِنْهَا: مَا بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ إلَى صَلَاةِ الْفَجْرِ، وَمَا بَعْدَ صَلَاةِ الْفَجْرِ إلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَمَا بَعْدَ صَلَاةِ الْعَصْرِ إلَى مَغِيبِ الشَّمْسِ، فَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ قَضَاءَ الْفَرَائِضِ وَالْوَاجِبَاتِ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ جَائِزٌ مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ، وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ أَدَاءَ التَّطَوُّعِ الْمُبْتَدَإِ مَكْرُوهٌ فِيهَا.
وَأَمَّا التَّطَوُّعُ الَّذِي لَهُ سَبَبٌ كَرَكْعَتَيْ الطَّوَافِ، وَرَكْعَتَيْ تَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ فَمَكْرُوهٌ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يُكْرَهُ، وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إذَا دَخَلَ أَحَدُكُمْ الْمَسْجِدَ فَلْيُحَيِّهِ بِرَكْعَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ» وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى بَعْدَ الْعَصْرِ» وَعَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ «أَنَّهُ صَلَّى الصُّبْحَ فَسَمِعَ صَوْتَ حَدَثٍ مِمَّنْ خَلْفَهُ فَقَالَ: عَزَمْت عَلَى مَنْ أَحْدَثَ أَنْ يَتَوَضَّأَ وَيُعِيدَ صَلَاتَهُ فَلَمْ يَقُمْ فَقَالَ جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيُّ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَرَأَيْت لَوْ تَوَضَّأْنَا جَمِيعًا وَأَعَدْنَا الصَّلَاةَ فَاسْتَحْسَنَ ذَلِكَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَقَالَ لَهُ: كُنْت سَيِّدًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَقِيهًا فِي الْإِسْلَامِ فَقَامُوا وَأَعَادُوا الْوُضُوءَ وَالصَّلَاةَ»، وَلَا شَكَّ أَنَّ تِلْكَ الصَّلَاةَ مِمَّنْ لَمْ يُحْدِثْ كَانَتْ نَافِلَةً وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ الْفَرَائِضُ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ كَذَا النَّوَافِلُ.
(وَلَنَا) مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: شَهِدَ عِنْدِي رِجَالٌ مَرْضِيُّونَ وَأَرْضَاهُمْ عِنْدِي عُمَرُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا صَلَاةَ بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ حَتَّى تُشْرِقَ الشَّمْسُ، وَلَا صَلَاةَ بَعْدَ صَلَاةِ الْعَصْرِ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ» فَهُوَ عَلَى الْعُمُومِ إلَّا مَا خُصَّ بِدَلِيلٍ، وَكَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ ذَلِكَ.
وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ طَافَ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ سَبْعَةَ أَشْوَاطٍ وَلَمْ يُصَلِّ حَتَّى خَرَجَ إلَى ذِي طِوًى وَصَلَّى ثَمَّةَ بَعْدَ مَا طَلَعَتْ الشَّمْسُ، وَقَالَ رَكْعَتَانِ مَكَانَ رَكْعَتَيْنِ وَلَوْ كَانَ أَدَاءُ رَكْعَتَيْ الطَّوَافِ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ جَائِزًا مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ لَمَا أَخَّرَ؛ لِأَنَّ أَدَاءَ الصَّلَاةِ بِمَكَّةَ أَفْضَلُ خُصُوصًا رَكْعَتَا الطَّوَافِ.
وَأَمَّا حَدِيثُ عَائِشَةَ فَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَخْصُوصًا بِذَلِكَ دَلَّ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ أَنَّهُ قِيلَ لِأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ إنَّ عَائِشَةَ تَرْوِي أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى بَعْدَ الْعَصْرِ فَقَالَ: إنَّهُ فَعَلَ مَا أُمِرَ وَنَ حْنُ نَفْعَلُ مَا أُمِرْنَا أَشَارَ إلَى أَنَّهُ مَخْصُوصًا بِذَلِكَ وَلَا شِرْكَةَ فِي مَوْضِعِ الْخُصُوصِ أَلَا تَرَى إلَى مَا رُوِيَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعَصْرِ فَسَأَلَتْهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: شَغَلَنِي وَفْدٌ عَنْ رَكْعَتَيْ الظُّهْرِ فَقَضَيْتُهُمَا فَقَالَتْ وَنَحْنُ نَفْعَلُ كَذَلِكَ فَقَالَ لَا» أَشَارَ إلَى الْخُصُوصِيَّةِ، لِأَنَّهُ كُتِبَتْ عَلَيْهِ السُّنَنُ الرَّاتِبَةُ، وَمَذْهَبُنَا مَذْهَبُ عُمَرَ، وَابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَائِشَةَ، وَأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ فَغَرِيبٌ لَا يُقْبَلُ عَلَى أَنَّ عُمَرَ إنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ لِإِخْرَاجِ الْمُحْدِثِ عَنْ عُهْدَةِ الْفَرْضِ، وَلَا بَأْسَ بِمُبَاشَرَةِ الْمَكْرِ لِمِثْلِهِ، وَالِاعْتِبَارُ بِالْفَرَائِضِ غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّ الْكَرَاهَةَ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ لَيْسَتْ لِمَعْنًى فِي الْوَقْتِ بَلْ لِمَعْنًى فِي غَيْرِهِ، وَهُوَ إخْرَاجُ مَا بَقِيَ مِنْ الْوَقْتِ عَنْ كَوْنِهِ تَبَعًا لِفَرْضِ الْوَقْتِ لِشَغْلِهِ بِعِبَادَةٍ مَقْصُودَةٍ، وَمَعْنَى الِاسْتِتْبَاعِ لَا يُمْكِنُ تَحْقِيقُهُ فِي حَقِّ الْفَرْضِ فَبَطَلَ الِاعْتِبَارُ.
وَكَذَا أَدَاءُ الْوَاجِبِ الَّذِي وَجَبَ بِصُنْعِ الْعَبْدِ مِنْ النَّذْرِ وَقَضَاءِ التَّطَوُّعِ الَّذِي أَفْسَدَهُ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ مَكْرُوهٌ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ؛ لِأَنَّهُ وَاجِبٌ فَصَارَ كَسَجْدَةِ التِّلَاوَةِ وَصَلَاةِ الْجِنَازَةِ، وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْمَنْذُورَ عَيْنُهُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ بَلْ هُوَ نَفْلٌ فِي نَفْسِهِ، وَكَذَا عَيْنُ الصَّلَاةِ لَا تَجِبُ بِالشُّرُوعِ، وَإِنَّمَا الْوَاجِبُ صِيَانَةُ الْمُؤَدَّاةِ عَنْ الْبُطْلَانِ فَبَقِيَتْ الصَّلَاةُ نَفْلًا فِي نَفْسِهَا فَتُكْرَهُ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ.
(وَمِنْهَا) مَا بَعْدَ الْغُرُوبِ يُكْرَهُ فِيهِ النَّفَلُ وَغَيْرُهُ؛ لِأَنَّ فِيهِ تَأْخِيرَ الْمَغْرِبِ وَأَنَّهُ مَكْرُوهٌ.
وَمِنْهَا مَا بَعْدَ شُرُوعِ الْإِمَامِ فِي الصَّلَاةِ وَقَبْلَ شُرُوعِهِ بَعْدَ مَا أَخَذَ الْمُؤَذِّنُ فِي الْإِقَامَةِ يُكْرَهُ التَّطَوُّعُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ قَضَاءً لِحَقِّ الْجَمَاعَةِ، كَمَا تُكْرَهُ السُّنَّةُ إلَّا فِي سُنَّةِ الْفَجْرِ عَلَى التَّفْصِيلِ الَّذِي ذَكَرْنَا فِي السُّنَنِ.
وَمِنْهَا وَقْتُ الْخُطْبَةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ يُكْرَهُ فِيهِ الصَّلَاةُ؛ لِأَنَّهَا سَبَبٌ لِتَرْكِ اسْتِمَاعِ الْخُطْبَةِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ تَحِيَّةَ الْمَسْجِدِ، وَالْمَسْأَلَةُ قَدْ مَرَّتْ فِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ، وَمِنْهَا مَا بَعْدَ خُرُوجِ الْإِمَامِ لِلْخُطْبَةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ قَبْلَ أَنْ يَشْتَغِلَ بِهَا، وَمَا بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْهَا قَبْلَ أَنْ يَشْرَعَ فِي الصَّلَاةِ يُكْرَهُ التَّطَوُّعُ فِيهِ وَالْكَلَامُ، وَجَمِيعُ مَا يُكْرَهُ فِي حَالَةِ الْخُطْبَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا لَا يُكْرَهُ الْكَلَامُ وَتُكْرَهُ الصَّلَاةُ، وَقَدْ مَرَّ الْكَلَامُ فِيهَا فِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ.
(وَمِنْهَا) مَا قَبْلَ صَلَاةِ الْعِيدِ يُكْرَهُ التَّطَوُّعُ فِيهِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَتَطَوَّعْ قَبْلَ الْعِيدَيْنِ مَعَ شِدَّةِ حِرْصِهِ عَلَى الصَّلَاةِ وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ خَرَجَ إلَى صَلَاةِ الْعِيدِ فَوَجَدَ النَّاسَ يُصَلُّونَ فَقَالَ: إنَّهُ لَمْ يَكُنْ قَبْلَ الْعِيدِ صَلَاةٌ فَقِيلَ لَهُ: أَلَا تَنْهَاهُمْ فَقَالَ: لَا فَإِنِّي أَخْشَى أَنْ أَدْخُلَ تَحْتَ قَوْلِهِ: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى عَبْدًا إذَا صَلَّى} وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَحُذَيْفَةَ أَنَّهُمَا كَانَا يَنْهَيَانِ النَّاسَ عَنْ الصَّلَاةِ قَبْلَ الْعِيدِ؛ وَلِأَنَّ الْمُبَادَرَةَ إلَى صَلَاةِ الْعِيدِ مَسْنُونَةٌ، وَفِي الِاشْتِغَالِ بِالتَّطَوُّعِ تَأْخِيرٌ.
وَلَوْ اشْتَغَلَ بِأَدَاءِ التَّطَوُّعِ فِي بَيْتِهِ يَقَعُ فِي وَقْتِ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَكِلَاهُمَا مَكْرُوهَانِ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ الرَّازِيّ مِنْ أَصْحَابِنَا: إنَّمَا يُكْرَهُ ذَلِكَ فِي الْمُصَلَّى كَيْ لَا يَشْتَبِهَ عَلَى النَّاسِ أَنَّهُمْ يُصَلُّونَ الْعِيدَ قَبْلَ صَلَاةِ الْعِيدِ، فَأَمَّا فِي بَيْتِهِ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَتَطَوَّعَ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَعَامَّةُ أَصْحَابِنَا عَلَى أَنَّهُ لَا يُتَطَوَّعُ قَبْلَ صَلَاةِ الْعِيدِ لَا فِي الْمُصَلَّى وَلَا فِي بَيْتِهِ، فَأَوَّلُ الصَّلَاةِ فِي هَذَا الْيَوْمِ صَلَاةُ الْعِيدِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

.فَصْلٌ: بَيَانُ مَا يُفَارِقُ التَّطَوُّعُ الْفَرْضَ فِيهِ:

وَأَمَّا بَيَانُ مَا يُفَارِقُ التَّطَوُّعُ الْفَرْضَ فِيهِ فَنَقُولُ: إنَّهُ يُفَارِقُهُ فِي أَشْيَاءَ: مِنْهَا أَنَّهُ يَجُوزُ التَّطَوُّعُ قَاعِدًا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْقِيَامِ، وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ فِي الْفَرْضِ؛ لِأَنَّ التَّطَوُّعَ خَيْرٌ دَائِمٌ فَلَوْ أَلْزَمْنَاهُ الْقِيَامَ يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ إدَامَةُ هَذَا الْخَيْرِ، فَأَمَّا الْفَرْضُ فَإِنَّهُ يَخْتَصُّ بِبَعْضِ الْأَوْقَاتِ، فَلَا يَكُونُ فِي إلْزَامِهِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ حَرَجٌ، وَالْأَصْلُ فِي جَوَازِ النَّفْلِ قَاعِدًا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْقِيَامِ مَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي قَاعِدًا فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَرْكَعَ قَامَ فَقَرَأَ آيَاتٍ، ثُمَّ رَكَعَ وَسَجَدَ ثُمَّ عَادَ إلَى الْقُعُودِ».
وَكَذَا لَوْ افْتَتَحَ الْفَرْضَ قَائِمًا ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَقْعُدَ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ بِالْإِجْمَاعِ.
وَلَوْ افْتَتَحَ التَّطَوُّعَ قَائِمًا ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَقْعُدَ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ فَلَهُ ذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ اسْتِحْسَانًا، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لَا يَجُوزُ وَهُوَ الْقِيَاسُ؛ لِأَنَّ الشُّرُوعَ مُلْزِمٌ كَالنَّذْرِ.
وَلَوْ نَذَرَ أَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ قَائِمًا لَا يَجُوزُ لَهُ الْقُعُودُ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ، فَكَذَا إذَا شَرَعَ قَائِمًا وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ مُتَبَرِّعٌ وَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْقِيَامِ وَالْقُعُودِ فِي الِابْتِدَاءِ، فَكَذَا بَعْدَ الشُّرُوعِ لِكَوْنِهِ مُتَبَرِّعًا أَيْضًا.
وَأَمَّا قَوْلُهُمَا: إنَّ الشُّرُوعَ مُلْزِمٌ فَنَقُولُ: إنَّ الشُّرُوعَ لَيْسَ بِمُلْزِمٍ وَضْعًا، وَإِنَّمَا يُلْزِمُ لِضَرُورَةِ صِيَانَةِ مَا انْعَقَدَ عِبَادَةً عَنْ الْبُطْلَانِ، وَمَا انْعَقَدَ يَتَعَلَّقُ بَقَاؤُهُ عِبَادَةً بِوُجُودِ أَصْلِ مَا بَقِيَ مِنْ الصَّلَاةِ لَا بِوُجُودِ وَصْفِ مَا بَقِيَ، فَإِنَّ التَّطَوُّعَ قَاعِدًا جَائِزٌ فِي الْجُمْلَةِ فَلَمْ يَلْزَمْ تَحْصِيلُ وَصْفِ الْقِيَامِ فِيمَا بَقِيَ؛ لِأَنَّ لُزُومَ مَا بَقِيَ لِأَجْلِ الضَّرُورَةِ وَلَا ضَرُورَةَ فِي حَقِّ وَصْفِ الْقِيَامِ، وَلِهَذَا لَا يَلْزَمُهُ أَكْثَرُ مِنْ رَكْعَتَيْنِ لِاسْتِغْنَاءِ الْمُؤَدَّى عَنْ الزِّيَادَةِ بِخِلَافِ النَّذْرِ فَإِنَّهُ مَوْضُوعٌ لِلْإِيجَابِ شَرْعًا فَإِذَا أَوْجَبَ مَعَ الْوَصْفِ وَجَبَ كَذَلِكَ حَتَّى لَوْ أَطْلَقَ النَّذْرَ، لَا رِوَايَةَ فِيهِ فَقِيلَ: إنَّهُ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ الَّذِي ذَكَرْنَا فِي الشُّرُوعِ، وَقِيلَ: لَا يَلْزَمُهُ بِصِفَةِ الْقِيَامِ؛ لِأَنَّ التَّطَوُّعَ لَمْ يَتَنَاوَلْ الْقِيَامَ فَلَا يَلْزَمُهُ إلَّا بِالتَّنْصِيصِ عَلَيْهِ كَالتَّتَابُعِ فِي بَابِ الصَّوْمِ، وَقِيلَ: يَلْزَمُهُ قَائِمًا؛ لِأَنَّ النَّذْرَ وُضِعَ لِلْإِيجَابِ فَيُعْتَبَرُ مَا أَوْجَبَهُ عَلَى نَفْسِهِ بِمَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ مُطْلَقًا، وَهُنَاكَ يَلْزَمُهُ بِصِفَةِ الْقِيَامِ إلَّا مِنْ عُذْرٍ كَذَا هَذَا.
وَأَمَّا الشُّرُوعُ فَلَيْسَ بِمَوْضُوعٍ لِلْوُجُوبِ وَإِنَّمَا جُعِلَ مُوجِبًا بِطَرِيقِ الضَّرُورَةِ، وَالضَّرُورَةُ فِي حَقِّ الْأَصْلِ دُونَ الْوَصْفِ عَلَى مَا مَرَّ.
افْتَتَحَ التَّطَوُّعَ قَاعِدًا فَأَدَّى بَعْضَهَا قَاعِدًا وَبَعْضَهَا قَائِمًا أَجْزَأَهُ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَفْتَتِحُ التَّطَوُّعَ قَاعِدًا فَيَقْرَأُ وِرْدَهُ حَتَّى إذَا بَقِيَ عَشْرُ آيَاتٍ، أَوْ نَحْوُهَا قَامَ فَأَتَمَّ قِرَاءَتَهُ ثُمَّ رَكَعَ وَسَجَدَ وَهَكَذَا كَانَ يَفْعَلُ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ، فَقَدْ انْتَقَلَ مِنْ الْقُعُودِ إلَى الْقِيَامِ، وَمِنْ الْقِيَامِ إلَى الْقُعُودِ» فَدَلَّ أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ فِي صَلَاةِ التَّطَوُّعِ.
أَنَّهُ يَجُوزُ التَّنَفُّلُ عَلَى الدَّابَّةِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى النُّزُولِ، وَأَدَاءُ الْفَرْضِ عَلَى الدَّابَّةِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى النُّزُولِ لَا يَجُوزُ لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ.
وَمِنْهَا أَنَّ الْقِرَاءَةَ فِي التَّطَوُّعِ فِي الرَّكَعَاتِ كُلِّهَا فَرْضٌ، وَالْمَفْرُوضُ مِنْ الْقِرَاءَةِ فِي ذَوَاتِ الْأَرْبَعِ مِنْ الْمَكْتُوبَاتِ فِي رَكْعَتَيْنِ مِنْهَا فَقَطْ حَتَّى لَوْ تَرَكَ الْقِرَاءَةَ فِي الشَّفْعِ الْأَوَّلِ مِنْ الْفَرْضِ لَا يُفْسِدُ الشَّفْعَ الثَّانِيَ بَلْ يَقْضِيهَا فِي الشَّفْعِ الثَّانِي، أَوْ يُؤَدِّيَهَا بِخِلَافِ التَّطَوُّعِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ كُلَّ شَفْعٍ مِنْ التَّطَوُّعِ صَلَاةٌ عَلَى حِدَةٍ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ مَوْقُوفًا عَلَيْهِمْ، وَمَرْفُوعًا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لَا يُصَلَّى بَعْدَ صَلَاةٍ مِثْلُهَا» قَالَ مُحَمَّدٌ: تَأْوِيلُهُ لَا يُصَلَّى بَعْدَ صَلَاةٍ مِثْلُهَا مِنْ التَّطَوُّعِ عَلَى هَيْئَةِ الْفَرِيضَةِ فِي الْقِرَاءَةِ أَيْ: رَكْعَتَانِ بِقِرَاءَةٍ وَرَكْعَتَانِ بِغَيْرِ قِرَاءَةٍ أَيْ: لَا يُصَلِّي بَعْدَ أَرْبَعِ الْفَرِيضَةَ أَرْبَعًا مِنْ التَّطَوُّعِ يَقْرَأُ فِي رَكْعَتَيْنِ وَلَا يَقْرَأُ فِي رَكْعَتَيْنِ، وَالنَّهْيُ عَنْ الْفِعْلِ أَمْرٌ بِضِدِّهِ، فَكَانَ هَذَا أَمْرٌ بِالْقِرَاءَةِ فِي الرَّكَعَاتِ كُلِّهَا فِي التَّطَوُّعِ، وَلَا يُحْمَلُ عَلَى الْمُمَاثَلَةِ فِي أَعْدَادِ الرَّكَعَاتِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مَنْهِيٍّ بِالْإِجْمَاعِ كَالْفَجْرِ بَعْدَ الرَّكْعَتَيْنِ، وَالظُّهْرِ بَعْدَ الْأَرْبَعِ فِي حَقِّ الْمُقِيمِ، وَالرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الظُّهْرِ فِي حَقِّ الْمُسَافِرِ، وَتَأْوِيلُ أَبِي يُوسُفَ أَيْ: لَا تُعَادُ الْفَرَائِضُ الْفَوَائِتُ؛ لِأَنَّهُ فِي بِدَايَةِ الْإِسْلَامِ كَانَتْ الْفَرَائِضُ تُقْضَى ثُمَّ تُعَادُ مِنْ الْغَدِ لِوَقْتِهَا فَنَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ.
وَمِصْدَاقُ هَذَا التَّأْوِيلِ مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ، أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا، أَوْ اسْتَيْقَظَ مِنْ الْغَدِ لِوَقْتِهَا»، ثُمَّ نُسِخَ هَذَا الْحَدِيثُ بِقَوْلِهِ «لَا يُصَلَّى بَعْدَ صَلَاةٍ مِثْلُهَا» وَيُمْكِنُ حَمْلُ الْحَدِيثِ عَلَى النَّهْيِ عَنْ قَضَاءِ الْفَرْضِ بَعْدَ أَدَائِهِ مَخَافَةَ دُخُولِ فَسَادٍ فِيهِ بِحُكْمِ الْوَسْوَسَةِ وَتَكُونُ فَائِدَةُ الْحَدِيثِ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ وُجُوبَ دَفْعِ الْوَسْوَسَةِ، وَالنَّهْيَ عَنْ اتِّبَاعِهَا، وَيَجُوزُ أَنْ يُحْمَلَ الْحَدِيثُ عَلَى النَّهْيِ عَنْ تَكْرَارِ الْجَمَاعَةِ فِي مَسْجِدٍ وَاحِدٍ، وَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ يَكُونُ الْحَدِيثُ حُجَّةً لَنَا عَلَى الشَّافِعِيِّ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَمِنْهَا أَنَّ الْقَعْدَةَ عَلَى رَأْسِ الرَّكْعَتَيْنِ فِي ذَوَاتِ الْأَرْبَعِ فِي الْفَرَائِضِ لَيْسَتْ بِفَرْضٍ بِلَا خِلَافٍ حَتَّى لَا يَفْسُدَ بِتَرْكِهَا، وَفِي التَّطَوُّعِ اخْتِلَافٌ عَلَى مَا مَرَّ.
وَلَوْ قَامَ إلَى الثَّالِثَةِ قَبْلَ أَنْ يَقْعُدَ سَاهِيًا فِي الْفَرْضِ، فَإِنْ اسْتَتَمَّ قَائِمًا لَمْ يُعِدْ، وَإِنْ لَمْ يَسْتَتِمَّ قَائِمًا عَادَ وَقَعَدَ وَسَجَدَ سَجْدَتَيْ السَّهْوِ.
وَأَمَّا فِي التَّطَوُّعِ فَقَدْ ذَكَرَ مُحَمَّدٌ أَنَّهُ إذَا نَوَى أَنْ يَتَطَوَّعَ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ وَقَامَ وَلَمْ يَسْتَتِمَّ قَائِمًا أَنَّهُ يَعُودُ، وَلَمْ يَذْكُرْ أَنَّهُ إذَا اسْتَتَمَّ قَائِمًا هَلْ يَعُودُ أَمْ لَا؟ قَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا: لَا يَعُودُ اسْتِحْسَانًا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا نَوَى الْأَرْبَعَ الْتَحَقَ بِالظُّهْرِ، وَبَعْضُهُمْ قَالَ: يَعُودُ؛ لِأَنَّ كُلَّ شَفْعٍ صَلَاةٌ عَلَى حِدَةٍ، وَالْأَوَّلُ أَوْجَهُ.
وَلَوْ كَانَ نَوَى أَنْ يَتَطَوَّعَ بِرَكْعَتَيْنِ فَقَامَ مِنْ الثَّانِيَةِ إلَى الثَّالِثَةِ قَبْلَ أَنْ يَقْعُدَ فَيَعُودُ هاهنا بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ مَشَايِخِنَا؛ لِأَنَّ كُلَّ شَفْعٍ بِمَنْزِلَةِ صَلَاةِ الْفَجْرِ.
وَمِنْهَا أَنَّ الْجَمَاعَةَ فِي التَّطَوُّعِ لَيْسَتْ بِسُنَّةٍ إلَّا فِي قِيَامِ رَمَضَانَ، وَفِي الْفَرْضِ وَاجِبَةٌ أَوْ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «صَلَاةُ الْمَرْءِ فِي بَيْتِهِ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاتِهِ فِي مَسْجِدِهِ إلَّا الْمَكْتُوبَةَ» وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «كَانَ يُصَلِّي رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ فِي بَيْتِهِ، ثُمَّ يَخْرُجُ إلَى الْمَسْجِدِ» وَلِأَنَّ الْجَمَاعَةَ مِنْ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ وَذَلِكَ مُخْتَصٌّ بِالْفَرَائِضِ أَوْ الْوَاجِبَاتِ دُونَ التَّطَوُّعَاتِ، وَإِنَّمَا عَرَفْنَا الْجَمَاعَةَ سُنَّةً فِي التَّرَاوِيحِ بِفِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، فَإِنَّهُ رُوِيَ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى التَّرَاوِيحَ فِي الْمَسْجِدِ لَيْلَتَيْنِ، وَصَلَّى النَّاسُ بِصَلَاتِهِ» وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي خِلَافَتِهِ اسْتَشَارَ الصَّحَابَةَ أَنْ يَجْمَعَ النَّاسَ عَلَى قَارِئٍ وَاحِدٍ فَلَمْ يُخَالِفُوهُ فَجَمَعَهُمْ عَلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ.
وَمِنْهَا أَنَّ التَّطَوُّعَ غَيْرُ مُوَقَّتٍ بِوَقْتٍ خَاصٍّ، وَلَا مُقَدَّرٍ بِمِقْدَارٍ مَخْصُوصٍ فَيَجُوزُ فِي أَيِّ وَقْتٍ كَانَ عَلَى أَيِّ مِقْدَارٍ كَانَ إلَّا أَنَّهُ يُكْرَهُ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ، وَعَلَى بَعْضِ الْمَقَادِيرِ عَلَى مَا مَرَّ وَالْفَرْضُ مُقَدَّرٌ بِمِقْدَارٍ خَاصٍّ مُوَقَّتٍ بِأَوْقَاتٍ مَخْصُوصَةٍ، فَلَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَى قَدْرِهِ، وَتَخْصِيصُ جَوَازِهِ بِبَعْضِ الْأَوْقَاتِ دُونَ بَعْضٍ عَلَى مَا مَرَّ فِي مَوْضِعِهِ.
وَمِنْهَا أَنَّ التَّطَوُّعَ يَتَأَدَّى بِمُطْلَقِ النِّيَّةِ، وَالْفَرْضُ لَا يَتَأَدَّى إلَّا بِتَعْيِينِ النِّيَّةِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا الْفَرْقَ فِي مَوْضِعِهِ،.
وَمِنْهَا أَنَّ مُرَاعَاةَ التَّرْتِيبِ يَخْتَصُّ بِالْفَرَائِضِ دُونَ التَّطَوُّعَاتِ حَتَّى لَوْ شَرَعَ فِي التَّطَوُّعِ ثُمَّ تَذَكَّرَ فَائِتَةً مَكْتُوبَةً لَمْ يَفْسُدْ تَطَوُّعُهُ.
وَلَوْ كَانَ فِي الْفَرْضِ تَفْسُدُ الْفَرِيضَةُ؛ لِأَنَّ الْمُفْسِدَ لِلْفَرْضِ كَوْنُهُ مُؤَدِّيًا لِلْفَرْضِ قَبْلَ وَقْتِهِ، وَلَيْسَ لِلتَّطَوُّعِ وَقْتٌ مَخْصُوصٌ بِخِلَافِ الْفَرْضِ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ تَذَكَّرَ فَائِتَةً عَلَيْهِ فِي صَلَاةِ الْفَرْضِ يَنْقَلِبُ فَرْضُهُ تَطَوُّعًا وَلَا يَبْطُلُ أَصْلًا، فَإِذَا تَذَكَّرَ فِي التَّطَوُّعِ لَأَنْ يَبْقَى تَطَوُّعًا وَلَا يَبْطُلُ كَانَ أَوْلَى وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.